ديسمبر/كانون الأول الماضي، وخلف أبواب مغلقة مُنع فيها نشر اسمه، إلى أن
قررت المحكمة رفع حظرها أخيراً، ومددت حبسه حتى الرابع من الشهر المقبل،
بينما أطلق 3 مشتبهين من الجهاز الأمني المدني “بيت”.
وجاء اعتقال فيندسن بعد اتهامه بتسريبات إلى الصحافة عن عدد من القضايا،
وفيها ما يمسّ أيضاً الاستخبارات المدنية، والتعاون غير القانوني مع استخبارات
دولة حليفة.
إحدى أهم القضايا التي تلاحق المدير وبعض معاونيه تتعلق بمعلومات عن تجسس دنماركي على مواطنين وسياسيين غربيين لمصلحة وكالة الأمن القومي الأميركية (NSA). وتركز الكشف على تعاون مع الأميركيين أتاح لهم الحصول على بيانات من الكابلات البحرية التي تمرّ عبر الدنمارك وتهمّ دولاً أوروبية وأعضاءً في حلف شمال الأطلسي (ناتو). ويعتبر تعاون الكابلات أحد أعمق أسرار الدولة.
وعادةً ما تتخذ قصص التغطية الصحافية في الدنمارك (كبقية دول الشمال) صيغة “بحسب مصادر قريبة من” أو “وفقاً لتسريبات” و”جرى الاطلاع على”. ومثلما كان يتوق القارئ في كوبنهاغن للاطلاع على حقائق في سياق حقه المشروع بتدفق المعلومات إليه، يبدو أنّ أصابع الاستخبارات الدنماركية كانت تراقب وتنبش لمعرفة من يسرب معلومات حساسة، شكلت في 3 قضايا على الأقل، إحراجاً، لناحية الثغرات في تقارير مصنفة “سرية” و”سرية للغاية”.
ورغم اعتراف رؤساء تحرير بعض الصحف، الذين تمت زيارتهم أو الذين “زاروا” الجهاز الأمني، أن الحديث معهم كان للتخويف من نشر المزيد من المعلومات حول معتقلي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ من بين الأربعة ( فيندسن و3 آخرين)، إلّا أنّ الأمر كان يشمل قضايا نشر حساسة أخرى. حساسية “قضية التسريبات” هذه الأيام عائدة إلى الوزن الثقيل للمشتبه بهم في القضية، خصوصاً فيندسن، الذي وجد نفسه يقع في شباك جهاز الاستخبارات المدنية، بعد مراقبة وتنصت عليه استمر لشهرين. الآن، وبحسب شهادات مسؤولي المؤسسات الإعلامية و”مؤسسة المطبوعات” و”نقابة الصحافيين” في الدنمارك، فإن الاستخبارات الدنماركية استخدمت لغة الوعيد السرية مع تلك الصحافة، قبل فضحها من قبل الصحافة نفسها، عبر طرح إمكانية تقديم شكاوى بحق مؤسساتهم على أساس قانون العقوبات المتعلق بالخيانة، المادة 109 من قانون العقوبات، والتي تودي بصاحبها إلى السجن 12 عاما.
أبرز القضايا التي أثرت فيها الصحافة
حتى مع اكتشاف قضية التسريبات إلى الصحافة، لم تتوقف الصحافة في كوبنهاغن عن نشر قصص وتقارير تتعلق بقضايا تعتبر “سرية” أو “حساسة” مثل موضوع اللاجئين السوريين، حيث تنشر الصحف ما يتعارض مع التوجه السياسي الأمني بتقدير “مناطق آمنة” لإعادة هؤلاء إلى دمشق وريفها، وبذلك تستند إلى تقارير ليست في متناول الجمهور. رغم ذلك، تبقى أهم القضايا التي أثارت اهتمام الأجهزة الأمنية في كوبنهاغن تتعلق بمعلومات حساسة، شكلت صدمة للرأي العام وأثرت فيه وبتوجهاته، وهي التعاون مع الاستخبارات الأجنبية، وتحديداً الأميركية. بالنسبة للرأي العام، فإن فضح الصحافة لعمق التعاون الأمني بين استخباراتهم والجانب الأميركي، وخصوصاً أنه متواصل منذ التسعينيات على هذا المستوى، شكل صدمةً وسجالاً دفع بالبرلمانيين من أحزاب اليسار إلى استجوابات وضرورة السيطرة أكثر على أعمال الأمن بما يتوافق والحقوق الدستورية للمواطنين. فالتجسس والتعاون مع وكالة الأمن القومي الأميركي NSA أديا إلى فضيحة تدحرجت ووصلت إلى ذروتها في سبتمبر/أيلول 2020، واستمرت حتى ربيع العام الماضي
كشف التلفزيون الدنماركي، بناءً على تسريب أمني، كيف أن مخابرات الدنمارك سلمت معلومات عن مواطنين دنماركيين، وهو ما يعارضه القانون، بل وصل أمر التعاون إلى منح الأميركيين فرصة التجسس على هاتف المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، وساسة أوروبيين آخرين من خلال تمكين وكالة الأمن القومي الأميركية من الوصول إلى كابل اتصالات حساس جداً.
شكّلت القضية حرجاً كبيراً لساسة البلد في علاقتهم بالأوروبيين. ورغم أنّ فيروس كورونا طغى على الأنباء، كما قدمت الدنمارك تفسيرات سياسية لدول أوروبية حول ما جرى، فإنّ ذلك التعاون جلب المزيد من الشكوك التي عززت دور الصحافة ومصداقيتها في إنارة قضايا تهم مصالح الجمهور ويومياته في ظل نظام ديمقراطي وشفافية أمنية تمنع التعرض لحرياته الأساسية، بما فيها حق الاطلاع على كل ما يجري. القضية الثانية التي أبرزتها الصحافة بتسريبات قدمتها صحيفة “إكسترا بلاديت” وأخافت كواليس الاستخبارات، تمثلت في تسريب تقارير “سرية للغاية” وجّه خلالها جهازا الاستخبارات المدني والعسكري، في مناسبات مختلفة، آخرها في مارس/آذار العام الماضي، توصيات للحكومة الدنماركية، بعمل جدي “لإخراج نساء وأطفال على علاقة بالدنمارك من مخيمي الروج والهول في شمال سورية وإعادتهم إلى كوبنهاغن”. وصلت التسريبات عن معتقلات متهمات بالانتماء إلى “داعش”، ومعتقلات مع أطفالهن/ القصر في سجون تديرها ميليشيات كردية، إلى مكتب رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن، وتقضي بضرورة استعادة هؤلاء “لما يمكن أن يشكله ترعرع القاصرين في ظروف ينقلبون فيها إلى التطرف ضد الدنمارك وخصوصًا الخوف من تهريبهم من المعسكرين”.
نشرت صحيفة “إكسترا بلاديت” تلك التسريبات، وثارت ضجة بين الدنماركيين بعدما ظلت السياسة الرسمية تعتبر أنّ النساء والأطفال “أداروا ظهورهم لبلدهم”، رافضةً استعادتهم. وتحت وابل من السجالات اضطرت كوبنهاغن في ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى استعادة النساء والقصر والأطفال. لكن تحت دخان تلك العودة، التي حظيت بتغطية إعلامية وقضائية، وبسبب الدور الذي لعبته الصحافة كانت الأجهزة الأمنية تفتش بغضب عن المسربين لتقارير سرية.
الضربة الثالثة والأقسى لجهازي الاستخبارات الدنماركيين، العسكري والمدني، كانت في نشر تسريب أمني لـ”بيرلنغسكا” عن معلومات مؤكدة ومصنفة “سري للغاية” عن قضية شاب دنماركي، أحمد سمسم، (من أصول سورية ولد وكبر في البلد)، وحكمت عليه محاكم إسبانيا بالسجن 8 سنوات في 2018 عن تهمة “الانضمام إلى داعش”. اعتقل الشاب في 2017، وظل لعام كامل يحاول إقناع مدريد أنّه كان يسافر إلى سورية بمعرفة الجهازين الأمنيين في بلده الدنمارك. ورغم رفض الأخيرين الاعتراف به، فقد مضت صحيفة “بيرلنغكسا” بإحراجهما من خلال نشر تقارير تؤكد أنّ الشاب سمسم، الذي تعرض لوصلة تخوين وإساءة في الصحافة الدنماركية باعتباره “إرهابياً” بالفعل كان عميلاً للأمن الدنماركي. وشكل نشر معلومات سرية فضيحة حقيقية للاستخبارات الدنماركية، واضطرت الدنمارك في العام الماضي إلى استعادته من سجون إسبانيا، وخفض الحكم إلى 6 سنوات.
النشر في القضية استمر حتى الأيام الأخيرة من السنة الماضية، إذ رفع محامو سمسم قضية لمحاكمة الاستخبارات من أجل فرض اعتراف رسمي به سعياً لتبرئته وإطلاق سراحه. ولعلّ القضية الأخيرة، المتعلقة بنشر تفاصيل مسربة من أروقة الاستخبارات إلى الصحافة، وسعي سمسم إلى جر الجهازين أمام المحاكم يعتبر من أكثرها حساسية. فمدير جهاز الاستخبارات العسكرية فيندسن هو المتهم الرئيس في تسريب المعلومات السرية إلى الصحافة، وتلك تهمة ثقيلة تحمل تصنيف “خيانة” رغم أنّ الصحافة وبعض الرأي العام يبديان نوعاً من التعاطف مع رئيس الجهاز المعتقل، الذي أصرّ بنفسه على نشر اسمه في الصحافة في طلبه للقاضي الذي أبقى الاسم سراً منذ الشهر الفائت.