هل سبق وكنت مشغولاً بمشكلة ما لبعض الوقت، فأتاك الحل فجأة عندما تشتت ذهنك عن التفكير بها؟ هناك دليل قوي على أن الرؤى الإبداعية تحتاج إلى وقت لتتشكل، وأن المقدار الصحيح من التسويف قد يكون مفتاحاً للابتكار. فهل تؤيد هذه النظرية؟!
تعلمنا من تاريخ الإبداع أن الأفكار العظيمة غالباً ما تأتي في وقت لا نتوقعه. فقد يكون الشخص منشغلاً بأي أمر من أموره اليومية عندما تفاجئه إحدى الأفكار العظيمة، فهي لا تأتي حسب رغبة الشخص وبالوقت الذي يريده. على سبيل المثال، وصف عالم الرياضيات الفرنسي “بوانكاريه” كيف حدثت اكتشافاته أثناء سفره في الحافلة و أثناء جلوسه عند شاطئ البحر. بشكل مماثل، ذكرت “أجاثا كريستي” أنها غالباً ما كانت تستقبل الأفكار المتعلقة بقصص الجريمة الخاصة بها أثناء الاستحمام. وكتبت في سيرتها الذاتية: “لا أعتقد أن الضرورة هي أم الاختراع. في رأيي، ممكن أن يأتي الإبداع من الكسل”.
يبدو أن علماء النفس يتفقون مع ذلك، فهناك أدلة قوية على ازدياد احتمالية ظهور الأفكار الإبداعية أثناء انشغال الشخص بأمور أخرى، كالمشي أو الاستحمام أو القيام بالأعمال المنزلية. كما أن التسويف في العمل، كمشاهدة مقاطع فيديو مضحكة على YouTube، قد يكون مفيداً بشرط أن يتم ذلك باعتدال.
اقرأ أيضاً: لا تدع الإجهاد يسلبك الحياة..تعرف على أهمية تحقيق التوازن بين العمل ووقتك الخاص
التسويف و التفكير الحر
هناك العديد من الأسباب التي تجعل التسويف يؤدي لرؤى جديدة ومبتكرة. وفقاً لإحدى النظريات الرائدة، يعتمد ذلك على قوة العقل اللاواعي. فعندما نترك مهمتنا الحالية، يستمر الدماغ في البحث عن حلول متجاوزاً الوعي مما قد يوصله للحل مباشرةً.
بنفس القدر من الأهمية، تسمح لنا فترة الراحة التي نحصل عليها بالتسويف باكتساب بعض المسافة النفسية عن مهمتنا. فعندما تقضي وقتاً طويلاً في التركيز على مشكلة واحدة، سينصب تركيزك على بعض الحلول الواضحة فقط دون غيرها. كما يجب أن تساعدك هذه الفترة على توسيع نطاق تركيزك العقلي حتى تتمكن من التفكير في المشكلة من منظور جديد.
في عام 2012، وضع عالم النفس “بنجامين بيرد” وزملاؤه هذه الفكرة على المحك بتجربة بارعة. طُلب من المشاركين أولاً إجراء اختبار تقليدي للإبداع يسمى “مهمة الاستخدامات غير العادية”. حيث كان الهدف من هذا الاختبار هو العثور على أكبر عدد ممكن من الاستخدامات المدهشة لشيء شائع، كعلاقة المعاطف.
خطوات تجربة التسويف:
بعد بضع دقائق من العصف الذهني، حان وقت فترة الراحة والتسويف. سُمح لبعض الطلاب بالراحة لمدة 12 دقيقة. أما الآخرون، فتم إعطاؤهم اختباراً سهلاً لحد ما، حيث عُرض عليهم سلسلة من الأرقام وكان عليهم أن يقولوا (بشكل متقطع) ما إذا كان الرقم زوجياً أم فردياً. يشبه هذا الاختبار القيام بالأعمال المنزلية كغسل الأطباق، حيث يتطلب القليل من التركيز ويسمح لمساحة كبيرة من شرود الذهن.
تم تكليف مجموعة ثالثة من المشاركين بمهمة أصعب، حيث كان عليهم الاحتفاظ بالأرقام في ذاكرتهم لفترة قصيرة قبل تقديم إجاباتهم. من حيث الجهد الذهني المطلوب، فإن هذه المهمة تشبه التفكير المركز الذي نقوم به عادةً في العمل، حيث لا يسمح بكثير من شرود الذهن.
بعد انتهاء فترة الراحة التي بلغت مدتها 12 دقيقة، عاد جميع المشاركين إلى الاختبار الأول الخاص بالاستخدامات غير العادية، وسجلوا درجات بسبب أفكارهم الإبداعية. فلتحقيق الابداع، ما تحتاجه حقاً هو تفكير أكثر مرونة وأقل تركيزاً، ويبدو أن ذلك يأتي من التسويف والقليل من تشتيت الذهن عن طريق مهام جانبية بسيطة.
كانت فوائد أداء هذه المهمات الجانبية مذهلة، حيث أظهر هؤلاء المشاركون بعدها زيادة بنسبة 40% في إبداع أفكارهم. والأهم من ذلك أن المشاركين الذين لم يقوموا بهذه المهام خلال فترة الراحة لم يحصلوا على أي فوائد. أما أولئك الذين كانوا مشغولين بالكامل بتحدي الذاكرة، لم يكن أداؤهم أيضاً أفضل من أداء المشاركين الذين استمروا في مهمة العصف الذهني دون فترة راحة. في النتيجة، قد يؤدي بعض التسويف لتسلسل منطقي للأفكار مما يحفز المزيد من الإبداع.
المماطلة المنتجة
هناك أخباراً جيدة للمماطلين، نظراً لأن العدد من أنشطة إضاعة الوقت لديهم قد توفر المستوى الأمثل للإلهاء من أجل قدر أكبر من الإبداع. أهم ما في الأمر هو استخدام الإلهاء باعتدال، يتضح ذلك من دراسة جديدة من أستاذي الإدارة الأمريكية “جيهي شين” و “آدم غرانت”.
في البداية، طلب الباحثون من المشاركين التفكير في أفضل الطرق التي يمكن أن ينفق بها طالب صاحب مشروع 10.000 دولار لبدء شركة جديدة، وكان عليهم كتابة الطرق في مقترح عمل. ولدفعهم إلى التسويف، تم تزويد المشاركين بروابط لمقاطع فيديو YouTube مضحكة يمكنهم الوصول إليها بسهولة أثناء التمرين. ثم قام الباحثون بمقارنة مدى تأجيلهم مع إبداع مقترحاتهم.
في النتيجة، يميل الأشخاص الذين أخذوا فترات راحة قصيرة لمشاهدة المقاطع إلى ابتكار أفكار أكثر إبداعاً بكثير من بقية المشاركين. يعزز ذلك فكرة أن المستويات المعتدلة من الإلهاء يمكن أن تطلق العنان للتفكير الإبداعي.
كيف تقوم بإضاعة الوقت بشكل مُبتكَر؟
سواء كنت روائياً ناشئاً أو مدرساً تسعى للوصول لمزيد من خطط الدروس الإبداعية، فإن نتائج التجربة السابقة تستحق أن تُؤخذ بعين الاعتبار. مع اقتراب الموعد النهائي لإتمام العمل، قد نخشى إضاعة أي وقت بعيداً عن المهمة المطلوبة. لكن ذلك سيكون له نتائج عكسية، ولا ينبغي أن لا يكون هناك شعور بالذنب بشأن قضاء بضع لحظات من التسويف والإلهاء، أو ترك المهمة تماماً لإتاحة الفرصة للحل لأن يظهر فجأة. فبدلاً من لجوء المدراء لتوجيه اللوم للموظفين عند ترك العمل لبعض الوقت، يجب عليهم تشجيع ذلك بشكل أكبر.
في الواقع، هناك العديد من النشاطات التي قد تحفز الإبداع وأهمها “المشي“. حيث نتج عن المشي تأثيرات محفزة للإبداع متشابهة سواء كان المشي في الداخل أو في الهواء الطلق. لذلك، يمكن لأصحاب العمل تصميم مكان عمل بطريقة تشجع الموظفين للقيام بمزيد من المشي. وقد يكون المقر الرئيسي الجديد لشركة Apple، والذي تم افتتاحه في شهر أيار في عام 2017، خير مثالٍ على ذلك. حيث يشمل البناء حديقة بمساحة 30 فداناً ذات مناظر طبيعية حيث يمكن للموظفين التجول فيها. يعزز ذلك اللقاءات والمحادثات المصادفة مع الزملاء، والتي يمكن أن تكون بحد ذاتها مصدر إلهاء إبداعي عن طريق تبادل الأفكار. تشجع الشركة هذا السلوك الداعم للإبداع، وهو الهدف الرئيسي في رؤية “ستيف جوبز” للمنتزه.
في الواقع، لا تستطيع جميع الشركات تحمل تكاليف مساحات مكتبية جديدة، ويعمل العديد من الموظفين الآن عن بعد. ولكن يمكن للمدراء تعزيز التسويف المعتدل بطرق أخرى، كتحديد مواعيد استراحات شرب القهوة المنتظمة خلال الاجتماعات. وحتماً يجب على المدراء تجنب تأديب الموظفين بسبب القليل من الاستراحة.
في بيئة العمل الذي تتميز بالمنافسة المتزايدة، نحتاج إلى التفكير الابتكاري أكثر من أي وقت مضى. لكن هذا لن يكون ممكناً إلا إذا سمحنا للعقل الواعي بالعثور على الراحة والتجول بحرية من وقت لآخر.