هي بعثة أرست الأسس الأولى لمعرفة هذا العالم الذي كان مجهولا إلى حد كبير في أوروبا منتصف القرن الثامن عشر. لقد انتقل أفراد البعثة، الذين دفعوا حياتهم ثمنا لهذه المغامرة المعرفية الكبرى، في معظم أرجاء الشرق العربي، ليسجلوا عادات شعوبه، ويرسموا خرائط لجغرافيته، ويسبروا أغوار بحاره، ويطلعوا على مخطوطاته وكتبه القديمة، وأنواع مزارعه وحيواناته، مسجلين افتراقا كبيرا عن رحلات أوروبية سابقة ولاحقة، لم تكن بريئة تماما. ولأهمية هذه المناسبة، تنظم الدنمارك احتفالات رسمية مستمرة على مدار السنة، برعاية القصر الملكي، دعت إليها شخصيات ووسائل إعلام عربية، بالإضافة إلى النشاطات الثقافية والفنية المختلفة.
في قصر أميلنبورغ في العاصمة الدنماركية، ينتصب تمثال الملك فريدريك الخامس (1946 – 1766)، ملك الدنمارك والنرويج، الذي لم يقض في الحكم فترة طويلة؛ إذ رحل عن 42 عاما. وعلى قاعدة التمثال، سجلت الإنجازات الكبرى التي تحققت في عهد هذا الملك على المستويات الاقتصادية والصناعية والتجارية، مترافقة مع ازدهار الفنون والآداب والعلوم. ومن أهم هذه الإنجازات الرحلة الاستكشافية إلى العالم العربي، التي أمر الملك بها، وضمت ستة رجال، هلكوا جميعا، ما عدا واحد عاد بعد أهوال سبع سنين ليروي قصة الرحلة، التي ربما تكون الأغرب في تاريخ الرحلات الاستشراقية، بالإضافة إلى كونها الرحلة العلمية الأولى في التاريخ الأوروبي.
ما الذي دفع فريدريك الخامس لإصدار أمر ملكي عام 1761 للقيام بهذه الرحلة المهلكة؟
قبل سبع سنوات من هذا التاريخ، اتصل البروفسور جوهان ديفيد ميكائيلز (1717 – 1791)، أستاذ كرسي الفلسفة، والمختص باللغات الشرقية في جامعة غوتنغن، بوزير الخارجية الدنماركي، جون هارتفيغ بيرنستورف، طارحا عليه فكرة الرحلة إلى «ذلك العالم الغريب»، العالم العربي، الذي لا لم يكن يعرف أحد عنه شيئا آنذاك. وأوصل الوزير الفكرة إلى ملكه الشاب المتنور، الذي تحمس لها كثيرا، وسرعان ما حول حماسه إلى فعل. وأصدر أمرا ملكيا بانطلاق البعثة، محددا مهمتها بـ«الدخول والتوغل قدر المستطاع في العالم العربي». وتضمن الأمر تعاليم صارمة منها:
– يجب على أعضاء البعثة التحلي بأكبر قدر من الأدب تجاه السكان العرب، ولا يسمح لأعضاء البعثة أن ينتقدوا أو يعترضوا على دينهم، كما يجب الابتعاد عن كل ما يمقته العرب ويكرهونه. – على كل عضو من أعضاء البعثة أن يسجل كل شيء في مذكراته يوما بيوم ولا يعتمد على ذاكرته في التسجيل، وإنما يعتمد على ما سجل وكتب في مذكراته قبل نهاية اليوم.
– إن أعضاء البعثة سواسية، ولا يحق لأحد أن ينصب نفسه مسؤولا عليها، رغم أن مسؤوليات كبيرة أنيطت بكارستن نيبور.
أعضاء البعثة كانوا ستة. ثلاثة شباب مختصين في الفيزياء والنباتات واللاهوت واللغة، وطبيب ورسام، إضافة إلى «خادم». وهم كارستن نيبور، 28 سنة، عالم الرياضيات والفيزياء المعروف، الذي أطلق اسمه في ما بعد على قسم الدراسات الشرقية في جامعة كوبنهاغن، وفريدريك كريستيان فون هافن، 34 سنة، الحاصل على درجة الماجستير في علم اللاهوت. وكان هافن، استعدادا للرحلة، قد سافر إلى روما لتعلم العربية. وحدد مهمته في جمع الكتابات القديمة، وكتابات العهد القديم المتناثرة في المنطقة. والثالث هو «العبقري» بيتر فوسكول، 29، المختص بعلم النبات، الذي نشأ في مدينة هيلسينجفورد، عاصمة فنلندا، الخاضعة للسيادة السويدية آنذاك، ودخل جامعة أوبسالا وهو في العاشرة فقط من عمره، وتتلمذ على يد العالم الشهير كارل فون لينيه. وكان الطبيب كريستيان كارل كرامر هو رابعهم، وهو يحمل دكتوراه في الطب. وكانت من مهماته تقديم المعالجة للسكان العرب أيضا، إضافة إلى الاهتمام بأعضاء البعثة. وبالطبع، كان لا بد أن يرافق البعثة إلى الأراضي العربية المشهورة بصحاريها وآثارها القديمة رسام يسجل كل ذلك فنيا. وتم اختيار جورج ويلهيلم باورينفيند لهذه المهمة. فأنجز عدة لوحات ورسومات وتخطيطات عن أهم معالم المنطقة، والمناظر الطبيعية، والبورتريهات، واللباس العربي المختلف، ليس فقط بين بلد وآخر، بل بين منطقة وأخرى في داخل البلد نفسه.
في الرابع من يناير (كانون الثاني) 1761، انطلقت البعثة، التي ستسمى في ما بعد بـ«رحلة نيبور» وسط أجواء عاصفة، متجهة أولا إلى مرسيليا، التي وصلت إليها بعد شهر. ولا أحد يعرف ماذا حدث في الفترة اللاحقة، التي استمرت نحو أربعة أشهر، قبل وصول السفينة إلى مدينة القسطنطينية في يوليو (تموز) 1961، حيث مكثوا قرابة شهر ونصف في ضيافة القنصل الدنماركي. في القسطنطينية زاروا المكتبات والمساجد، وتعرفوا عن كثب على معالمها الإسلامية، ورقصات دراويشها، وأطعمتها الشرقية. وهناك أيضا تخلوا عن ملابسهم الأوروبية، والباروكات التي كانت شائعة الاستعمال آنذاك. إنه دخولهم الأول في العالم الغريب الذي كان ينتظرهم، ولكن لم يكن مقدرا لبعضهم أن يروه كما يأملون، فقد حصدتهم رياح الصحراء والملاريا، بشكل خاص، ثم ابتلع البحر جثثهم.
من هناك، اتجهت سفينة «الرحلة السعيدة» إلى الإسكندرية، مخلفين الطاعون، الذي بدأ يفتك بأهل القسطنطينية، خلفهم. ومن الإسكندرية، التي قضوا فيها شهرا، اتجهوا إلى القاهرة، وهم في توق عظيم ليروا إحدى عجائب الدنيا السبع: الأهرام. ما إن حطوا بركائبهم هناك، حتى توجهوا إلى «كوم الحجارة المرصوص فوق بعضه بعضا»، كما سيصف فون هافن الأهرام في يومياته، ولكن على ظهر الحمير، وليس الخيل، التي لم يكن يسمح لغير المسلمين بامتطائها! كانت نتائج الإقامة في مصر، التي استمرت سنة، مذهلة: رسم نيبور أكثر من 300 خريطة لقسم من المدن المصرية، وجمع هافن نحو 72 مخطوطا، وسجل فوسكول معلومات قيمة عن الطبيعة وأنواع الحيوانات، بالإضافة إلى تحديده 120 نوعا من النباتات، ورسم باورينفيند وجوه الناس وملابسهم. ومن القاهرة، التحقوا ببعثة الحج إلى مكة على ظهور الحمير أيضا. وتخلف عنهم نيبور وهافن ليكتشفا أسرار سيناء، وديرها سانت كاترين من دون أن يوفقا في مهمتهما بسبب الشكوك التي أحاطت بهما.
ثم انطلقت البعثة باتجاه البحر الأحمر، وهناك استطاع نيبور أن يرسم أول خريطة له، ظلت معتمدة لأمد طويل. ومن الطريف أن نيبور استعان بجهاز الأسطرلاب، الذي كان العرب قد طوروه لمعرفة بعد النجوم والكواكب عن الأرض، في معرفة خطوط العرض. ولقياس المسافات كان يعد خطواته أو خطوات الجمل الذي كان يمتطيه. وهذا ما فعله أيضا في اليمن، الذي وصلت إليه البعثة عن طريق السويس في عام 1763. وفي اليمن، حقق نيبور ربما أكبر إنجاز له في هذه البعثة، وهو رسم خريطة هذا البلد لأول مرة، وهي خريطة ظلت معتمدة لمائة عام. لكن اليمن، وفي مدينة المخا تحديدا، سيشهد وفاة أول عالمين من البعثة، هما فون هافن، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وبيتر فوسكول، المختص بعلم النبات، والمتحدث باسم البعثة لإجادته العربية، وكان في الواحدة والثلاثين، والسبب واحد: مرض الملاريا. لكن صنعاء منحتهم بعض العزاء؛ إذ استقبل الباقون هناك بحفاوة بالغة، عوضتهم عن المعاملة الخشنة التي تلقوها عند الحدود. ومع ذلك، لم تغرهم صنعاء طويلا، فعادوا على الطريق نفسه، ليصاب الأربعة الباقون بالملاريا التي قضت سابقا على هافن وفوسكول. وعلى ظهر السفينة المتجهة إلى الهند، لم يصمد الرسام باورينفيند طويلا أمام سرطان الصحراء، الملاريا، وألقيت جثته في البحر، ليتبعه بيوم واحد فقط بيرغرن، خادم الرحلة المجهول، وابتلعت جثته المياه الغريبة أيضا. لم يبق سوى نيبور، الذي أصبح هدفه الوحيد أن يبقى حيا لينقل لمليكه وللعالم كله ما رأوه وما اكتشفوه، والطبيب كرامر، الذي أصبحت مهمته الطبية الوحيدة إبقاء نيبور ينبض ليكمل ما بدأوه. لكن الطبيب سينهار بدوره، ويلتحق برفقائه بعد مضي أشهر قليلة. لم يبق سوى نيبور، وحيدا ومريضا: «والآن لم يبق إلا أنا من هذه البعثة التي كانت تزخر بالأعضاء، وها أنا جالس أحاول تخيل الطريق الذي سأسلكه عبر مدينة البصرة ومنها إلى مدينة تركيا ثم إلى أوروبا مرة أخرى. لا أتوقع أن أواجه مصاعب ومتاعب أقل من تلك التي واجهتنا في طريقنا من مصر إلى مدينة بومباي. ولم يبق لدي إلا قليل أمل بأني سوف أرى أوروبا مرة أخرى. ولكن علي أن أبقى حيا، لأنني إذا مت، فلا أضمن وصول أوراقي إلى أوروبا أبدا».
وقرر أن يعود إلى أوروبا قبل أن يموت، ولكن ليس قبل أن يكتشف بلاد فارس والعراق، متنقلا في البر على حمار استأجره مع صاحبه، ومغيرا شخصيته حسب الظروف. فمرة هو عربي مسافر، اسمه عبد الله، ومرة هو إنجليزي رحال. من بيرسيبوليس، عاصمة بلاد فارس القديمة، نقل نيبور إلى العالم سر الكتابات المنقوشة على جدران هذا المدينة السحرية، مما ساعد العالم الألماني جروتيفيند بعد نحو أربعين سنة على قراءة شفرتها، وبالتالي اكتشاف التاريخ، الذي يكمن خلف حروفها الغريبة التي لم يرها علماء الآثار من قبل. ظل هذا الرجل الفريد، المهووس بالمعرفة، يرسم ويرسم في شمس بيرسيبوليس الحارقة حتى ضعفت عيناه، ومات خادمه بضربة شمس. وهناك أصبح مرشدا أيضا للمسلمين، فقد كانوا يستعينون ببوصلته ليعرفوا اتجاه القبلة حين تحين مواقيت الصلاة. وهناك أيضا، ثم لاحقا على امتداد نهر الفرات في العراق، ربط نيبور بين تغير المناخ وارتفاع مناسيب المياه. أما في البصرة، فلم يسجل نيبور في يومياته الكثير، ما عدا اندهاشه من ظاهرة الحمام الزاجل، المنتشرة آنذاك في ربوع العراق، وغيرها من مدن المنطقة، وحبه لتمر البصرة المتعدد الأنواع. لم يسجل كذلك الكثير من بابل وبغداد، ما عدا إشارته إلى الحدائق المعلقة في بابل، وموجة البرد الشديدة في بغداد، التي وصل إليها مطلع عام 1766، والتي قتلت نحو 20 شخصا. وإعجابه بمساجدها وحماماتها. ومن بغداد، اتجه نيبور إلى كركوك والموصل، حيث سجل إعجابه بالتآخي الموجود بين المسلمين والمسحيين في هذه المدينة، وهذا ما لاحظه أيضا في مدينة حلب السورية، التي قضى فيها فترة من الزمن. ويبدو من أوراقه، أنها المدينة التي أحبها أكثر من غيرها لجمالها واعتدال مناخها، وتنوع سكانها، وكتب عنها يقول: «تعتبر مدينة حلب من أجمل المدن في المنطقة بأثرها، فالطقس جميل ومريح وبداخلها يستطيع المرء أن يجد كل وسائل الراحة الممكنة، فضلا عن الأشياء الضرورية.. نعم إنها حياة مريحة».
أهم إنجازات نيبور في حلب، هو رسم خريطة لها، والتعريف بالمكونات بالإثنية والدينية التي تسكنها، مثل الدروز الذين لم يكونوا معروفين آنذاك في أوروبا. ومثلما عبر عن إعجابه بالتعايش بين الأديان في حلب والموصل، أدهشه في القدس، التي وصل إليها عن طريق قبرص حيث جمع بعض المخطوطات والكتب القديمة، وقضى فيها أسبوعين، «حالة التعايش بين الديانات، وكيف أن المسيحيين واليهود والمسلمين يعيشون تحت سماء واحدة». ومرة أخرى، كان أهم إنجازاته رسم خريطة للمدينة، ظلت معتمدة، كخريطة اليمن وحلب، لأمد طويل.
ثم.. آن أوان العودة أخيرا. اتجه نيبور إلى القسطنطينية. ومن هناك إلى أوروبا عبر الطريق البري المتعب، المليء بالغابات والجبال، فقد كانت لديه تعليمات ملكية صارمة بأن لا يركب البحر في طريق عودته، ولا أحد يعرف لماذا. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1767، وصل إلى كوبنهاغن بعد سبع سنين، حاملا أوراقه ومذكراته وكشوفات ويوميات مرافقيه الموتى، التي ستغير تصورات ومفاهيم أوروبا عن العرب، التي احتاج نيبور عشر سنين لإعادة كتابتها وتصنيفها، وصوغ نتائجها، ومنها، كما بينها، رسم أول خريطة لليمن والبحر الأحمر، وحلب والقدس، و100 مخطوط، وجمع 900 اسم عربي لنباتات مختلفة، و1800 ورقة مليئة بالمعلومات عن حيوانات المنطقة، وحيوانات أخرى لم تكن معروفة في العالم.
في عام 1774، نشر نيبور أول مجلد عن تفاصيل الرحلة. وبعد أربع سنوات، عاد إلى مدينته الأولى، ديمتاركسن، ليعمل هناك كمزارع، لحين رحيله في 1815، عن 82 عاما. أما المجلدات الأخرى، فقد نشرت بعد وفاته بسنين كثيرة، ولا تزال حتى الآن مصادر أساسية للباحثين في شؤون العالم العربي.